الاثنين، 19 أكتوبر 2009

النقاب ومسؤولية المثقف التاريخية

يقف المثقف غالبا مشدوها حائرا مضطربا أمام ما يرى وما يسمع من عامة الشعوب العربية والإسلامية من بله في التفكير، وسطحية في تناول الأحداث، وانشغال بالتوافه من الأمور عن جلائل الأمور وعظائمها؛ فبينما الأمة غارقة في مصائبها الكبيرة، ومشاكلها العظيمة التي تحتاج إلى تضافر الجهود وعصف الأذهان للخروج من هذا المأزق التاريخي، نجد الجماهير الغفيرة مشدودة شدا إلى الجدل العقيم بين عوامها ومتعلميها وصغارها وكبارها حول فرضية النقاب أو عدم فرضيته، وهل هو عادة لا صلة لها بالدين؟ أم هو من صميم الإسلام وجوهره؟

اليهود يعملون بكل ما أوتوا من طاقة وجهد من أجل تهويد القدس، وهدم المسجد الأقصى، وخططهم في ذلك أصبحت لا تخفى على أحد، وإجراءاتهم العملية أصبحت واضحة للعيان، لا لبس فيها ولا غموض، ولا تحتاج للاستدلال عليها إلى جهد يذكر، بل هي من المسلمات التي اتفق عليها خواص الناس وعوامهم.

والمشروع الصهيوأمريكى في طريقه سائر، وخطط التمكين له تسير على قدم وساق.
والنظم الاستبدادية في بلادنا أخرجت لسانها لشعوبها، وأصبحت تجاهر بالولاء للأعداء، والتنكر التام لقضايا الأمة ومصيرها، بل أصبحت هي التي تقود الأمة إلى مصيرها المفجع المؤلم، ولا شيء يرهبها أو يوقفها عند حدها، فقد تمكنت والعصا الأمنية الغليظة مستعدة وجاهزة في أي وقت لسحق أي صوت معارض، حتى ولو كان صوتا مبحوحا لا يسمع إلا نفسه، فهي عصا جاهلة متخلفة غليظة قاسية، مات فيها صوت العقل والضمير، فلا تسمع إلا صوتا واحدا، ولا تدرك إلا صوت فحيح الأفعى وهى تأمره: اضرب.. اسحق.. اسحل.. اقتل.. اسجن؛ فهؤلاء لا حق لهم في الحياة ولا في العيش الكريم، بل هؤلاء ما هم إلا عبيد، لا بل حيوانات لا قيمة لها.

والأمراض النفسية والاجتماعية والجسدية استوطنت نفوس تلك الشعوب وعقولهم وأجسادهم؛ حتى بات الواقفون أمام عيادة طبيب الأورام الخبيثة أكثر عددا من الواقفين أمام طوابير الخبز، والمحتاجون للأدوية أكثر من المحتاجين للطعام، والعاطلون يتيهون في ظلمات البطالة والجوع والخوف من المجهول، ظلمات بعضها فوق بعض.

كل ذلك لم يحرك في الجماهير الغفيرة ساكنا، ولم يضطرب لهم شعور، إلا بمقدار ما يضطرب عندما يرون فيلما مأساويا.
وما أن تفجرت قضية النقاب حتى انبرت الأقلام، وعلت الأصوات، واحتشدت الوسائل، وشغل الرأي العام بقضية القضايا وحصن الإسلام المنيع الذي حاول الأعداء هدمه، وحتى لا يساء فهمي فأنا ومن وجهة نظري الشخصية، لا أرى النقاب أكثر من أمر فيه خلاف فقهي بين الفقهاء، والسعة والرحمة فيه أقرب إلى التشدد والتضييق؛ لأن المختلف فيه لا إنكار فيه، لكنه يبقى في دائرة الإباحة والحرية الشخصية طالما التزمت المرأة بضوابط الشرع في لباسها، والأمر بعد كل ذلك لا يمت بصلة لقضايا الأمة الجوهرية التي تنتظر من الشعوب الحركة والعمل وحشد الطاقات والوسائل.

لقد اعتصر الألم قلوبنا ونحن نرى الأمة بكاملها تتحول في غمضة عين- وقضية اقتحام الأقصى على أشدها- إلى الجدل الطويل حول النقاب والحجاب، وكل يريد إثبات أحقية رأيه بالإتباع، حتى بالغ بعضهم وأتى بالكتب والمراجع التي تثبت رأيه ووضعها أمامه، كأنه يقول هذه أسلحتي التي أنافح بها عن ثغر الإسلام وحصنه المنيع، فأروني ما عندكم من أسلحة.

والمرء يتساءل: ماذا دهانا؟ أهذه وسائل إعلامنا التي تنفق عليها الملايين؟ وتأخذ مساحات كبيرة من وقت الشعوب والبث الاعلامى؟ تنفق هكذا في الجدل حول الحجاب والنقاب، فما بالها تخرس عن فضح الظلم والظالمين، وما بالها تخرس عن كشف عورة الاستبداد، ومحاربة الفساد، أم إنها من موائد الاستبداد تأكل، ومن فتاتها تنفق.

في ظل هذه الأوضاع تعلقت المسؤولية بالمثقفين، ومفكري الأمة، ومخلصيها، وجماعات الإصلاح فيها، أن تبذل جهودها في التوعية، وإفاقة الشعوب من غفلتها، ولا يكفى في ذلك الكتابة والنظر للمجتمع من أبراج عاجية، بل لابد من التحام المثقفين بالجماهير، والانصهار معهم في بوتقة العمل الجماهيري المثمر، وإلا فسنظل نحرث في الماء، ونصرخ في واد، وننفخ في رماد .
محمد عبد الفتاح عليوة

الخميس، 15 أكتوبر 2009

شيخ الأزهر وعقلية الإدارة المصرية

إذا افترضنا أن حادث النقاب الذي أثار ضجة الأسبوع الماضي لم يكن مقصودا لصرف الأنظار بعيدا عما يتعرض له المسجد الأقصى من انتهاكات على يد اليهود ومحاولة لاقتحامه كما صرح بذلك البعض.
فان هذا الحادث يكشف لنا بوضوح عن حقيقة العقلية المصرية في الإدارة، على اعتبار أن شيخ الأزهر أصبح بما لا يدع مجالا للشك - بمواقفه المختلفة في الآونة الأخيرة - مجرد موظف في الحكومة المصرية، يأتمر بأمرها، ويحرص على أن تكون مواقفه وتصريحاته متوافقة مع سياستها وتوجهاتها، وليس كما كان سابقا أو نتوقع منه رمزا إسلاميا لكل المسلمين.
أقول إن موقف شيخ الأزهر من موضوع النقاب، وإصداره قرارا بسرعة البرق بمنع النقاب في المعاهد الأزهرية عقب هذا الموقف بينه وبين الطالبة، يدل على طبيعة العقلية الإدارية في مصر، إنها عقلية متخلفة جامدة، تدل على ضيق الأفق، والعشوائية، والتسرع، والانفعالية في إصدار القرارات طبقا لمواقف شخصية عابرة، وليس طبقا لدراسة متنأية، تعتمد على معرفة بالأمور أو العواقب أو النتائج المتوخاة من القرارات أو تحقيقا لأهداف معينة.
عقلية تعتمد على الفردية والشخصنة، بعيدا عن المؤسسية والاعتماد على المعلومات والبيانات الواقعية، التي ترصد الواقع، وتحدد الاحتياجات والمتطلبات .
ولهذا لا نعجب من الفشل الذريع للإدارة المصرية في إدارة شئون الدولة، وتراجع الدولة المصرية في كل مناحي الحياة، وحصولها على الأصفار المتوالية بلا منازع .
وهذه هي طبيعة الإدارة في ظل النظم الاستبدادية.
محمد عبد الفتاح عليوة

الأحد، 26 يوليو 2009

العقول المصرية : إلى أين؟

برغم حالة الضعف العام التي أصابت الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية في مصر، والتي تبدو آثارها على كل شيء؛ بفعل الاستبداد والفساد، إلا أن مصر مازالت قادرة على إنتاج علماء مخلصين، وعقول، ومفكرين قادرين على أن ينهضوا بها، ويتقدموا بها خطوات إلى الأمام، ويضعوا أقدامها في مصاف الدول المتقدمة؛ وذلك إذا وجدت من يحتضنها، ويتبناها، ويشد أزرها، ويأخذ بيدها؛ لتصل إلى الغاية المبتغاة والأهداف المنشودة.

خذ مثلا المهندس جمال سالم (40 عاما) الذي استطاع أن يبتكر نظاما جديدا – منذ ثلا ث سنوات- يتيح للسيارة الوقوف ذاتيا في حالة الخطر، موفرا بذلك ثلث المسافة التي قد تستغرقها السيارة قبل الاصطدام بأي جسم أمامها، والذي أطلق عليه "الفرملة النفاثة".

هذا شيء جميل ورائع!! يقف المرء أمامه معجبا ومزهوا، لكن ما يدعوا للأسف والحزن في آن واحد!! هو ما لاقاه هذا العبقري المصري من متاعب جراء هذا الاختراع.

فلم يكن يعلم المهندس جمال سالم – كما ورد في صحيفة اليوم السابع الالكترونية- أن ابتكاره سيجعله مغضوبا عليه من المسؤلين في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي؛ والسبب إصراره على المطالبة بحقه في تمويل أكاديمية البحث العلمي لبحثه الذي حصل له على براءتين، إحداهما محلية مدتها 20 سنة، والأخرى دولية لمدة 30 شهرا، فضلا عن وصف البراءة الدولية للبحث بأنه جديد ومبتكر وقابل للتطبيق، كما أشادت به رابطة مصنعي السيارات وأكاديمية البحث العلمي.

رفض الوزارة تمويل البحث؛ جعل سالم يقوم بإعداد نموذج معملي على نفقته الخاصة؛ ليظهر قيمة النظام والنتائج المرجوة من تطبيقه، والتي تم عرضها على الوزير المختص، فرفض البحث قائلا "يبدو أن نفسك طويل لكن نفسنا إحنا كمان طويل".

هذه الحادثة لم تكن الفريدة من نوعها، ولن تكون، فهي حلقة في سلسلة متصلة من التجاهل والإهمال للمبدعين والمفكرين في مصر المحروسة، ولا ندرى حتى الآن لمصلحة من يتم هذا التجاهل؟ وهل تتم هذه التصرفات بناء على توجهات نظام سياسي فقد مصداقيته وشرعيته بفضل السلسلة الطويلة من الممارسات المفجعة بحق هذا الشعب المسكين؟ أم أنها تصرفات فردية لثلة من العاجزين والمنتفعين الذين لا يطيقون رؤية الكفاءات أو الناجحين؟ أم أن هذه هي طبيعة الاستبداد السياسي،الذي يسره أن ينتشر الجهل، ويسود الظلام بين صفوف الشعب؟ أم أن هذه إملاءات من قوى خارجية لا يسعدها أن يوجد أمثال هؤلاء المبدعين في بلادنا العربية والإسلامية؟.

لقد ألقى هذا الجو الخانق بظلاله على الأجيال الصاعدة؛ حتى فقد الشباب في بلادنا روح الانتماء لهذا الوطن العزيز، وباتوا يحلمون باليوم الذي يستطيعون فيه الفرار من هذا السجن الكبير، إلى بلاد أرحب، وشعوب تقدر لهم إبداعهم، وتثمن لهم عقولهم.

ولا أدل على ذلك مما ذكره موقع مصراوى – نقلا عن صحيفة القدس العربي – اليوم 25/7/2009 تحت عنوان " الطالبة الأولى على الثانوية تتهم الحكومة بإفساد التعليم وتقرر الهجرة لأمريكا" وجاء تحت هذا العنوان مايلى "شنت الطالبة رنا أبو بكر الحاصلة على المركز الأول بالثانوية العامة على مستوى الجمهورية بشعبة "علمي علوم"، هجوماً شديداً على الحكومة المصرية حيث اتهمتها بالمسؤولية الكاملة عن تدمير العملية التعليمية، والتحول بمصر من دولة ذات مكانة مرموقة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، إلى دولة تأتي في ذيل بلدان العالم بسبب الفساد المتنامي في كافة المجالات خاصة في التعليم.

جاء ذلك خلال الحفل السنوي الذي تقيمه وزارة التعليم بالمشاركة مع اتحاد طلاب المدارس، حيث فاجأت الطالبة الحضور بهذا الهجوم؛ مما أربك العديد من المسئولين وخبراء التعليم، خاصة عندما أعلنت الطالبة الأولى على مستوى الجمهورية رفضها التام البقاء في مصر، وعزمها الهجرة مع أسرتها للولايات المتحدة الأمريكية.

وأشارت رنا التي تبلغ من العمر سبعة عشر عاماً إلى أن الملايين الذين يذهبون للمدارس لا يستفيدون من مناهج التعليم المختلفة ولا ترعاهم الدولة، بل تساهم في تدمير مستقبلهم من خلال عدم توفير الفرص الطيبة للدراسة.
وكشفت الطالبة الأولى النقاب عن أن والدها هو الذي دفعها للهجرة للولايات المتحدة من أجل طلب العلم وبناء المستقبل وقال لها:"لا يوجد شئ هنا في مصر، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتوقعي النبوغ، بل قد ينتهي بك الأمر للجلوس في المنزل لتنضمي لملايين العاطلين".

وبعد إلى متى ستظل العقول العربية مهاجرة؟ ومتى يتوقف هذا النزيف الذي أجهد الأمة وأضعف قواها؟ بل ربما سيؤدى حتما إلى موتها في يوم من الأيام .. ربما عندما يزول الاستبداد.

الأحد، 12 يوليو 2009

المعركة الحقيقية مع الغرب : مروة الشربينى نموذجا..

لا شك أن الغرب استطاع في غفلة من المسلمين وتوقف مدهم الحضاري أن يصل إلى أعلى مراتب التقدم الحضاري في مجالاته المختلفة، وأن يتغلب على المسلمين سياسيا واقتصاديا وفكريا واجتماعيا.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه.. لماذا بعد هذا التقدم وتلك الغلبة مازال العداء قائما والحرب على أشدها؟
ترى ذلك في قسمات وجوههم، وتسمعه في فلتات ألسنتهم، وتبصره في نظرات عيونهم، قد بدت البغضاء من أفواههم، وما تخفى صدورهم اكبر.

مازالوا كذلك، ولا يزالون، لأنهم مازالوا مهزومون في المعركة الحقيقية، برغم إحرازهم لبعض التقدم فيها .

فما هي تلك المعركة ؟ وما هو ذلك الميدان ؟

إن المعركة الحقيقية والميدان الحقيقي للصراع إنما هو النفس والهوية والشخصية الإسلامية.

إنهم برغم إحراز بعض التقدم فيها، إلا أن الحركة فيها تسير ببطء السلحفاة، وكلما حسبوا أنها أوشكت على الانتهاء عادوا أدراجهم إلى الخيبة واليأس، في قلوبهم الحسرة، وفى نفوسهم اليأس، وازداد البغض والحقد.

إن عقائد الإسلام وأخلاقه مازالت قوية في نفوس أتباعه، برغم الظلال الكثيفة التي علقت بالنفوس من شبهات وشهوات، نتاج الفكر الغربي والثقافة الغربية التي جهد الغرب بكل الطرق الخبيثة والملتوية في زرعها في نفوس أبناء الأمة.

إن قوة عقيدة الإسلام ومتانة أخلاقه وأصالة فكره تضمن بقاءه وخلوده واستعصائه على الزوال أو التشويه، بفعل القوة الذاتية له، رغم ضعف أتباعه وتهاونهم.

مازال المسلمون يحبون دينهم، وعندهم الاستعداد للتضحية في سبيله، برغم مظاهر الضعف الطافية على السطح، إلا أن حب الإسلام في النفوس عميق، كالأحجار الكريمة التي تستقر في أعماق البحار، تاركة الزبد يطفو على السطح كما يشاء، تظن معه إن البحر قد خلا من كل ذي قيمة .

وما استشهاد مروة الشربينى من أجل حجابها عنا ببعيد!!

هل الدولة الإسلامية دولة مدنية؟

يحلو للعلمانيين في بلادنا أن يصفوا الدولة الإسلامية بأنها دولة دينية، والمقصود بالدينية طبعا كما تعلموه من الغرب أي دولة يتحكم فيها رجال الدين، والحاكم فيها مقدس، وهو فوق القانون، أو ما يطلقون عليه الدولة الثيوقراطية.

والحقيقة أن هذا الكلام يحتاج إلى تفنيد، فالدولة الإسلامية دولة مدنية بالطبع، بمعنى أن الحاكم فيها يختاره أهل المدينة –أي الشعب-، ويخضع للمحاسبة والمراجعة والعزل إن اقتضى الأمر ذلك، ولا قداسة فيها لأحد، بل انه في نظر الإسلام أجير عند الأمة، مهمته سياسة الدنيا وحراسة الدين، وليس في الإسلام من يحكم بالحق الالهى المقدس.

والتطبيق العملى لدولة الإسلام الأولى يثبت بما لا يدع مجالا للشك صحة هذا الكلام، فالرسول –صلى الله عليه وسلم- الذي أسس الدولة الإسلامية الأولى جمع بين السلطة الدينية المتمثلة في الوحي والرسالة، والسلطة الزمنية المتمثلة في الحكم وتصريف أمور الدولة، وقد بنيت الدولة على أسس واضحة، وعلى رقعة جغرافية محددة، وجمعت بين أصحاب العقائد المختلفة، فقد جمعت إلى جانب المسلمين الوثنيين واليهود، وقد نظم العلاقة بينهم جميعا الدستور الذي وضعه الرسول – صلى الله عليه وسلم-، والمتمثل في الصحيفة والتي أقرت كل فرد في الدولة على معتقداته، مع حقوقه وواجباته، ومبادىء الدفاع المشترك عن الدولة إذا ما تعرضت للأخطار الخارجية.

ومع عصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا انه كان يحرص على استشارة أصحابه، والنزول على رأي أغلبيتهم في الأمور الاجتهادية التي لا تخضع للوحي، والأدلة على ذلك كثيرة في غزوة بدر وأحد وغيرها... وإنك لتعجب عندما ينزل النبي -وهو المؤيد بالوحي- على رأى أغلب الصحابة من شباب المسلمين بالخروج إلى المشركين في أحد خارج المدينة، رغم أنه كان يميل إلى الرأي الآخر القائل بعدم الخروج، وانتظارهم في المدينة، ومقاتلتهم في شوارعها وطرقاتها، وبرغم ما كان من نتيجة مؤلمة لذلك الرأي حيث كانت الهزيمة المرة، إلا أن الله حثه على مواصلة هذا النهج، وعدم التخلي عنه، فقال له " فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله ".

وكثيرا ما كان ينزل النبي على رأى أصحابه في الأمور الغير خاضعة لحكم الوحي.

وجاء أصحابه من بعده وأخرجوا للدنيا أرقى دولة مدنية في العالم، حتى أن العالم لم يعرف مثيلا لها حتى الآن، لأنها دولة يحرسها الوحي، وتخضع لقيم السماء، والناس فيها سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى والعمل الصالح، دولة جمعت بين بلال الحبشي، وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وأبو بكر القرشي، الكل تظلهم راية الإسلام، وتجمعهم أخوة الدين.
هل ورث النبي الحكم لأحد؟ وهل وصى به لأحد من بعده؟ أم أنه ترك الأمر شورى بين المسلمين، وهل عرفت الدنيا مثل اجتماع السقيفة " سقيفة بنى ساعدة" الذي جمع بين الآراء، ووسع جميع الاختلافات، واستوعب كل وجهات النظر، حتى استقر الرأي على أبى بكر رضي الله عنه، ثم كانت بيعة عامة من المسلمين جميعا.

وهل يعلن أبو بكر بعد هذا الإجماع عليه أنه يحكم بالحق الالهى المقدس لا يجوز مراجعته؟ أم يقول لهم ويؤسس لمبادىء الحكم في الإسلام " إني وليت عليكم ولست بخيركم"؟ فقد ولّى الحكم، ولم يسع إليه، ولم يقفز على السلطة، ويحوزها لنفسه وولده دون المسلمين، ويبين لهم حقوقهم المدنية المكفولة "أطعيونى ما أطعت الله فيكم فان عصيته فلا طاعة لي عليكم" "إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني".

ولم يكن أبو بكر وحده على هذا المنهاج، لكنها مبادىء الحكم في الإسلام التي حرص الخلفاء الراشدون من بعده على تطبيقها، حتى عندما تحول الحكم إلى ملك عضوض في عهد الخلافة الأموية والعباسية‘ لم يدّع أيا من الخلفاء أنه يحكم بالحق الالهى المقدس، أو أنه معصوم، لكنه كان يراجع، وينصح، ويستمع لنصائح العلماء والعقلاء، وينزل في بعض الأحيان على رأيهم ونصيحتهم ومشورتهم، وقد وسعت الدولة الثورات المتعددة التي وقفت في وجه الخلافة ذاتها، فما سمعنا من يسحقها وهو يدعى أنه حكم الله.

أليس في هذا دليلا واضحا على حقيقة مدنية الدولة في الإسلام؟ لكن مشكلة العلمانيين في بلادنا أنهم يرددون مصطلحات الغرب كالببغاوات بلا فهم ولا وتحليل، يقولون دولة الإسلام دولة ثيوقراطية، وهل يعرف الإسلام هذه المصطلحات؟.

إن مصطلح الدولة الثيوقراطية هو مصطلح غربي بحت، مرتبط بالتجربة المسيحية، التي كان فيها رجال الكنيسة يذبحون كل من يخالف آراءهم، متهمين إياه بالهرطقة والمروق من الدين.

والغريب أنك بتتبعك لحركة الإصلاح والتجديد التي قادها مارتن لوثر في القرن السادس عشر الميلادي في أوربا، والتي ثار فيها على تقاليد الكنيسة وصكوك الغفران، كان متأثرا فيها إلى حد بعيد بمبادىء الإسلام التي انتقلت إلى أوربا عبر الحروب الصليبية والأندلس.

لكن عقدة العلمانيين هي من الإسلام، لفهمهم المغلوط له، فالإسلام -وهذا مالم يستطع العلمانيون فهمه حتى الآن- نظام حياة وليس مجرد شعائر أو طقوس، ففيه أرقى النظم البشرية السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، ولا يمنع -مع ذلك- الأخذ من الحضارات فيما لا يتعارض مع مبادئه، وهو في تأصيله لتلك النظم يضع القواعد والأصول الكلية، أما التفاصيل والوسائل والأشكال فهي متروكة لاختلاف الزمان والمكان والاجتهاد، وبذلك تتحقق عالمية الرسالة، وصلاحيتها لكل زمان ومكان.

ومن هنا فلا تعارض بين مدنية الدولة، أي أن تكون الحقوق والواجبات فيها مرعية، والعدالة والمساواة فيها متحققة بين الحاكم والمحكوم على السواء، وبين مرجعيتها الإسلامية، إذ أن قوانين الدولة لابد أن تكون منبثقة من مرجعية شعبها وهويتهم،
لكن الارتباط بين المدنية والانسلاخ من الهوية، أو بين المدنية والحكم بقوانين أرضية من صنع البشر العاجز عن إدراك المصلحة، فهذا ليس إلا في عقول العلمانيين، سواء الأسياد منهم أو الأتباع.