الأحد، 12 يوليو 2009

هل الدولة الإسلامية دولة مدنية؟

يحلو للعلمانيين في بلادنا أن يصفوا الدولة الإسلامية بأنها دولة دينية، والمقصود بالدينية طبعا كما تعلموه من الغرب أي دولة يتحكم فيها رجال الدين، والحاكم فيها مقدس، وهو فوق القانون، أو ما يطلقون عليه الدولة الثيوقراطية.

والحقيقة أن هذا الكلام يحتاج إلى تفنيد، فالدولة الإسلامية دولة مدنية بالطبع، بمعنى أن الحاكم فيها يختاره أهل المدينة –أي الشعب-، ويخضع للمحاسبة والمراجعة والعزل إن اقتضى الأمر ذلك، ولا قداسة فيها لأحد، بل انه في نظر الإسلام أجير عند الأمة، مهمته سياسة الدنيا وحراسة الدين، وليس في الإسلام من يحكم بالحق الالهى المقدس.

والتطبيق العملى لدولة الإسلام الأولى يثبت بما لا يدع مجالا للشك صحة هذا الكلام، فالرسول –صلى الله عليه وسلم- الذي أسس الدولة الإسلامية الأولى جمع بين السلطة الدينية المتمثلة في الوحي والرسالة، والسلطة الزمنية المتمثلة في الحكم وتصريف أمور الدولة، وقد بنيت الدولة على أسس واضحة، وعلى رقعة جغرافية محددة، وجمعت بين أصحاب العقائد المختلفة، فقد جمعت إلى جانب المسلمين الوثنيين واليهود، وقد نظم العلاقة بينهم جميعا الدستور الذي وضعه الرسول – صلى الله عليه وسلم-، والمتمثل في الصحيفة والتي أقرت كل فرد في الدولة على معتقداته، مع حقوقه وواجباته، ومبادىء الدفاع المشترك عن الدولة إذا ما تعرضت للأخطار الخارجية.

ومع عصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا انه كان يحرص على استشارة أصحابه، والنزول على رأي أغلبيتهم في الأمور الاجتهادية التي لا تخضع للوحي، والأدلة على ذلك كثيرة في غزوة بدر وأحد وغيرها... وإنك لتعجب عندما ينزل النبي -وهو المؤيد بالوحي- على رأى أغلب الصحابة من شباب المسلمين بالخروج إلى المشركين في أحد خارج المدينة، رغم أنه كان يميل إلى الرأي الآخر القائل بعدم الخروج، وانتظارهم في المدينة، ومقاتلتهم في شوارعها وطرقاتها، وبرغم ما كان من نتيجة مؤلمة لذلك الرأي حيث كانت الهزيمة المرة، إلا أن الله حثه على مواصلة هذا النهج، وعدم التخلي عنه، فقال له " فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله ".

وكثيرا ما كان ينزل النبي على رأى أصحابه في الأمور الغير خاضعة لحكم الوحي.

وجاء أصحابه من بعده وأخرجوا للدنيا أرقى دولة مدنية في العالم، حتى أن العالم لم يعرف مثيلا لها حتى الآن، لأنها دولة يحرسها الوحي، وتخضع لقيم السماء، والناس فيها سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى والعمل الصالح، دولة جمعت بين بلال الحبشي، وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وأبو بكر القرشي، الكل تظلهم راية الإسلام، وتجمعهم أخوة الدين.
هل ورث النبي الحكم لأحد؟ وهل وصى به لأحد من بعده؟ أم أنه ترك الأمر شورى بين المسلمين، وهل عرفت الدنيا مثل اجتماع السقيفة " سقيفة بنى ساعدة" الذي جمع بين الآراء، ووسع جميع الاختلافات، واستوعب كل وجهات النظر، حتى استقر الرأي على أبى بكر رضي الله عنه، ثم كانت بيعة عامة من المسلمين جميعا.

وهل يعلن أبو بكر بعد هذا الإجماع عليه أنه يحكم بالحق الالهى المقدس لا يجوز مراجعته؟ أم يقول لهم ويؤسس لمبادىء الحكم في الإسلام " إني وليت عليكم ولست بخيركم"؟ فقد ولّى الحكم، ولم يسع إليه، ولم يقفز على السلطة، ويحوزها لنفسه وولده دون المسلمين، ويبين لهم حقوقهم المدنية المكفولة "أطعيونى ما أطعت الله فيكم فان عصيته فلا طاعة لي عليكم" "إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني".

ولم يكن أبو بكر وحده على هذا المنهاج، لكنها مبادىء الحكم في الإسلام التي حرص الخلفاء الراشدون من بعده على تطبيقها، حتى عندما تحول الحكم إلى ملك عضوض في عهد الخلافة الأموية والعباسية‘ لم يدّع أيا من الخلفاء أنه يحكم بالحق الالهى المقدس، أو أنه معصوم، لكنه كان يراجع، وينصح، ويستمع لنصائح العلماء والعقلاء، وينزل في بعض الأحيان على رأيهم ونصيحتهم ومشورتهم، وقد وسعت الدولة الثورات المتعددة التي وقفت في وجه الخلافة ذاتها، فما سمعنا من يسحقها وهو يدعى أنه حكم الله.

أليس في هذا دليلا واضحا على حقيقة مدنية الدولة في الإسلام؟ لكن مشكلة العلمانيين في بلادنا أنهم يرددون مصطلحات الغرب كالببغاوات بلا فهم ولا وتحليل، يقولون دولة الإسلام دولة ثيوقراطية، وهل يعرف الإسلام هذه المصطلحات؟.

إن مصطلح الدولة الثيوقراطية هو مصطلح غربي بحت، مرتبط بالتجربة المسيحية، التي كان فيها رجال الكنيسة يذبحون كل من يخالف آراءهم، متهمين إياه بالهرطقة والمروق من الدين.

والغريب أنك بتتبعك لحركة الإصلاح والتجديد التي قادها مارتن لوثر في القرن السادس عشر الميلادي في أوربا، والتي ثار فيها على تقاليد الكنيسة وصكوك الغفران، كان متأثرا فيها إلى حد بعيد بمبادىء الإسلام التي انتقلت إلى أوربا عبر الحروب الصليبية والأندلس.

لكن عقدة العلمانيين هي من الإسلام، لفهمهم المغلوط له، فالإسلام -وهذا مالم يستطع العلمانيون فهمه حتى الآن- نظام حياة وليس مجرد شعائر أو طقوس، ففيه أرقى النظم البشرية السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، ولا يمنع -مع ذلك- الأخذ من الحضارات فيما لا يتعارض مع مبادئه، وهو في تأصيله لتلك النظم يضع القواعد والأصول الكلية، أما التفاصيل والوسائل والأشكال فهي متروكة لاختلاف الزمان والمكان والاجتهاد، وبذلك تتحقق عالمية الرسالة، وصلاحيتها لكل زمان ومكان.

ومن هنا فلا تعارض بين مدنية الدولة، أي أن تكون الحقوق والواجبات فيها مرعية، والعدالة والمساواة فيها متحققة بين الحاكم والمحكوم على السواء، وبين مرجعيتها الإسلامية، إذ أن قوانين الدولة لابد أن تكون منبثقة من مرجعية شعبها وهويتهم،
لكن الارتباط بين المدنية والانسلاخ من الهوية، أو بين المدنية والحكم بقوانين أرضية من صنع البشر العاجز عن إدراك المصلحة، فهذا ليس إلا في عقول العلمانيين، سواء الأسياد منهم أو الأتباع.

ليست هناك تعليقات: