الأحد، 26 يوليو 2009

العقول المصرية : إلى أين؟

برغم حالة الضعف العام التي أصابت الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية في مصر، والتي تبدو آثارها على كل شيء؛ بفعل الاستبداد والفساد، إلا أن مصر مازالت قادرة على إنتاج علماء مخلصين، وعقول، ومفكرين قادرين على أن ينهضوا بها، ويتقدموا بها خطوات إلى الأمام، ويضعوا أقدامها في مصاف الدول المتقدمة؛ وذلك إذا وجدت من يحتضنها، ويتبناها، ويشد أزرها، ويأخذ بيدها؛ لتصل إلى الغاية المبتغاة والأهداف المنشودة.

خذ مثلا المهندس جمال سالم (40 عاما) الذي استطاع أن يبتكر نظاما جديدا – منذ ثلا ث سنوات- يتيح للسيارة الوقوف ذاتيا في حالة الخطر، موفرا بذلك ثلث المسافة التي قد تستغرقها السيارة قبل الاصطدام بأي جسم أمامها، والذي أطلق عليه "الفرملة النفاثة".

هذا شيء جميل ورائع!! يقف المرء أمامه معجبا ومزهوا، لكن ما يدعوا للأسف والحزن في آن واحد!! هو ما لاقاه هذا العبقري المصري من متاعب جراء هذا الاختراع.

فلم يكن يعلم المهندس جمال سالم – كما ورد في صحيفة اليوم السابع الالكترونية- أن ابتكاره سيجعله مغضوبا عليه من المسؤلين في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي؛ والسبب إصراره على المطالبة بحقه في تمويل أكاديمية البحث العلمي لبحثه الذي حصل له على براءتين، إحداهما محلية مدتها 20 سنة، والأخرى دولية لمدة 30 شهرا، فضلا عن وصف البراءة الدولية للبحث بأنه جديد ومبتكر وقابل للتطبيق، كما أشادت به رابطة مصنعي السيارات وأكاديمية البحث العلمي.

رفض الوزارة تمويل البحث؛ جعل سالم يقوم بإعداد نموذج معملي على نفقته الخاصة؛ ليظهر قيمة النظام والنتائج المرجوة من تطبيقه، والتي تم عرضها على الوزير المختص، فرفض البحث قائلا "يبدو أن نفسك طويل لكن نفسنا إحنا كمان طويل".

هذه الحادثة لم تكن الفريدة من نوعها، ولن تكون، فهي حلقة في سلسلة متصلة من التجاهل والإهمال للمبدعين والمفكرين في مصر المحروسة، ولا ندرى حتى الآن لمصلحة من يتم هذا التجاهل؟ وهل تتم هذه التصرفات بناء على توجهات نظام سياسي فقد مصداقيته وشرعيته بفضل السلسلة الطويلة من الممارسات المفجعة بحق هذا الشعب المسكين؟ أم أنها تصرفات فردية لثلة من العاجزين والمنتفعين الذين لا يطيقون رؤية الكفاءات أو الناجحين؟ أم أن هذه هي طبيعة الاستبداد السياسي،الذي يسره أن ينتشر الجهل، ويسود الظلام بين صفوف الشعب؟ أم أن هذه إملاءات من قوى خارجية لا يسعدها أن يوجد أمثال هؤلاء المبدعين في بلادنا العربية والإسلامية؟.

لقد ألقى هذا الجو الخانق بظلاله على الأجيال الصاعدة؛ حتى فقد الشباب في بلادنا روح الانتماء لهذا الوطن العزيز، وباتوا يحلمون باليوم الذي يستطيعون فيه الفرار من هذا السجن الكبير، إلى بلاد أرحب، وشعوب تقدر لهم إبداعهم، وتثمن لهم عقولهم.

ولا أدل على ذلك مما ذكره موقع مصراوى – نقلا عن صحيفة القدس العربي – اليوم 25/7/2009 تحت عنوان " الطالبة الأولى على الثانوية تتهم الحكومة بإفساد التعليم وتقرر الهجرة لأمريكا" وجاء تحت هذا العنوان مايلى "شنت الطالبة رنا أبو بكر الحاصلة على المركز الأول بالثانوية العامة على مستوى الجمهورية بشعبة "علمي علوم"، هجوماً شديداً على الحكومة المصرية حيث اتهمتها بالمسؤولية الكاملة عن تدمير العملية التعليمية، والتحول بمصر من دولة ذات مكانة مرموقة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، إلى دولة تأتي في ذيل بلدان العالم بسبب الفساد المتنامي في كافة المجالات خاصة في التعليم.

جاء ذلك خلال الحفل السنوي الذي تقيمه وزارة التعليم بالمشاركة مع اتحاد طلاب المدارس، حيث فاجأت الطالبة الحضور بهذا الهجوم؛ مما أربك العديد من المسئولين وخبراء التعليم، خاصة عندما أعلنت الطالبة الأولى على مستوى الجمهورية رفضها التام البقاء في مصر، وعزمها الهجرة مع أسرتها للولايات المتحدة الأمريكية.

وأشارت رنا التي تبلغ من العمر سبعة عشر عاماً إلى أن الملايين الذين يذهبون للمدارس لا يستفيدون من مناهج التعليم المختلفة ولا ترعاهم الدولة، بل تساهم في تدمير مستقبلهم من خلال عدم توفير الفرص الطيبة للدراسة.
وكشفت الطالبة الأولى النقاب عن أن والدها هو الذي دفعها للهجرة للولايات المتحدة من أجل طلب العلم وبناء المستقبل وقال لها:"لا يوجد شئ هنا في مصر، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتوقعي النبوغ، بل قد ينتهي بك الأمر للجلوس في المنزل لتنضمي لملايين العاطلين".

وبعد إلى متى ستظل العقول العربية مهاجرة؟ ومتى يتوقف هذا النزيف الذي أجهد الأمة وأضعف قواها؟ بل ربما سيؤدى حتما إلى موتها في يوم من الأيام .. ربما عندما يزول الاستبداد.

الأحد، 12 يوليو 2009

المعركة الحقيقية مع الغرب : مروة الشربينى نموذجا..

لا شك أن الغرب استطاع في غفلة من المسلمين وتوقف مدهم الحضاري أن يصل إلى أعلى مراتب التقدم الحضاري في مجالاته المختلفة، وأن يتغلب على المسلمين سياسيا واقتصاديا وفكريا واجتماعيا.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه.. لماذا بعد هذا التقدم وتلك الغلبة مازال العداء قائما والحرب على أشدها؟
ترى ذلك في قسمات وجوههم، وتسمعه في فلتات ألسنتهم، وتبصره في نظرات عيونهم، قد بدت البغضاء من أفواههم، وما تخفى صدورهم اكبر.

مازالوا كذلك، ولا يزالون، لأنهم مازالوا مهزومون في المعركة الحقيقية، برغم إحرازهم لبعض التقدم فيها .

فما هي تلك المعركة ؟ وما هو ذلك الميدان ؟

إن المعركة الحقيقية والميدان الحقيقي للصراع إنما هو النفس والهوية والشخصية الإسلامية.

إنهم برغم إحراز بعض التقدم فيها، إلا أن الحركة فيها تسير ببطء السلحفاة، وكلما حسبوا أنها أوشكت على الانتهاء عادوا أدراجهم إلى الخيبة واليأس، في قلوبهم الحسرة، وفى نفوسهم اليأس، وازداد البغض والحقد.

إن عقائد الإسلام وأخلاقه مازالت قوية في نفوس أتباعه، برغم الظلال الكثيفة التي علقت بالنفوس من شبهات وشهوات، نتاج الفكر الغربي والثقافة الغربية التي جهد الغرب بكل الطرق الخبيثة والملتوية في زرعها في نفوس أبناء الأمة.

إن قوة عقيدة الإسلام ومتانة أخلاقه وأصالة فكره تضمن بقاءه وخلوده واستعصائه على الزوال أو التشويه، بفعل القوة الذاتية له، رغم ضعف أتباعه وتهاونهم.

مازال المسلمون يحبون دينهم، وعندهم الاستعداد للتضحية في سبيله، برغم مظاهر الضعف الطافية على السطح، إلا أن حب الإسلام في النفوس عميق، كالأحجار الكريمة التي تستقر في أعماق البحار، تاركة الزبد يطفو على السطح كما يشاء، تظن معه إن البحر قد خلا من كل ذي قيمة .

وما استشهاد مروة الشربينى من أجل حجابها عنا ببعيد!!

هل الدولة الإسلامية دولة مدنية؟

يحلو للعلمانيين في بلادنا أن يصفوا الدولة الإسلامية بأنها دولة دينية، والمقصود بالدينية طبعا كما تعلموه من الغرب أي دولة يتحكم فيها رجال الدين، والحاكم فيها مقدس، وهو فوق القانون، أو ما يطلقون عليه الدولة الثيوقراطية.

والحقيقة أن هذا الكلام يحتاج إلى تفنيد، فالدولة الإسلامية دولة مدنية بالطبع، بمعنى أن الحاكم فيها يختاره أهل المدينة –أي الشعب-، ويخضع للمحاسبة والمراجعة والعزل إن اقتضى الأمر ذلك، ولا قداسة فيها لأحد، بل انه في نظر الإسلام أجير عند الأمة، مهمته سياسة الدنيا وحراسة الدين، وليس في الإسلام من يحكم بالحق الالهى المقدس.

والتطبيق العملى لدولة الإسلام الأولى يثبت بما لا يدع مجالا للشك صحة هذا الكلام، فالرسول –صلى الله عليه وسلم- الذي أسس الدولة الإسلامية الأولى جمع بين السلطة الدينية المتمثلة في الوحي والرسالة، والسلطة الزمنية المتمثلة في الحكم وتصريف أمور الدولة، وقد بنيت الدولة على أسس واضحة، وعلى رقعة جغرافية محددة، وجمعت بين أصحاب العقائد المختلفة، فقد جمعت إلى جانب المسلمين الوثنيين واليهود، وقد نظم العلاقة بينهم جميعا الدستور الذي وضعه الرسول – صلى الله عليه وسلم-، والمتمثل في الصحيفة والتي أقرت كل فرد في الدولة على معتقداته، مع حقوقه وواجباته، ومبادىء الدفاع المشترك عن الدولة إذا ما تعرضت للأخطار الخارجية.

ومع عصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا انه كان يحرص على استشارة أصحابه، والنزول على رأي أغلبيتهم في الأمور الاجتهادية التي لا تخضع للوحي، والأدلة على ذلك كثيرة في غزوة بدر وأحد وغيرها... وإنك لتعجب عندما ينزل النبي -وهو المؤيد بالوحي- على رأى أغلب الصحابة من شباب المسلمين بالخروج إلى المشركين في أحد خارج المدينة، رغم أنه كان يميل إلى الرأي الآخر القائل بعدم الخروج، وانتظارهم في المدينة، ومقاتلتهم في شوارعها وطرقاتها، وبرغم ما كان من نتيجة مؤلمة لذلك الرأي حيث كانت الهزيمة المرة، إلا أن الله حثه على مواصلة هذا النهج، وعدم التخلي عنه، فقال له " فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله ".

وكثيرا ما كان ينزل النبي على رأى أصحابه في الأمور الغير خاضعة لحكم الوحي.

وجاء أصحابه من بعده وأخرجوا للدنيا أرقى دولة مدنية في العالم، حتى أن العالم لم يعرف مثيلا لها حتى الآن، لأنها دولة يحرسها الوحي، وتخضع لقيم السماء، والناس فيها سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى والعمل الصالح، دولة جمعت بين بلال الحبشي، وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وأبو بكر القرشي، الكل تظلهم راية الإسلام، وتجمعهم أخوة الدين.
هل ورث النبي الحكم لأحد؟ وهل وصى به لأحد من بعده؟ أم أنه ترك الأمر شورى بين المسلمين، وهل عرفت الدنيا مثل اجتماع السقيفة " سقيفة بنى ساعدة" الذي جمع بين الآراء، ووسع جميع الاختلافات، واستوعب كل وجهات النظر، حتى استقر الرأي على أبى بكر رضي الله عنه، ثم كانت بيعة عامة من المسلمين جميعا.

وهل يعلن أبو بكر بعد هذا الإجماع عليه أنه يحكم بالحق الالهى المقدس لا يجوز مراجعته؟ أم يقول لهم ويؤسس لمبادىء الحكم في الإسلام " إني وليت عليكم ولست بخيركم"؟ فقد ولّى الحكم، ولم يسع إليه، ولم يقفز على السلطة، ويحوزها لنفسه وولده دون المسلمين، ويبين لهم حقوقهم المدنية المكفولة "أطعيونى ما أطعت الله فيكم فان عصيته فلا طاعة لي عليكم" "إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني".

ولم يكن أبو بكر وحده على هذا المنهاج، لكنها مبادىء الحكم في الإسلام التي حرص الخلفاء الراشدون من بعده على تطبيقها، حتى عندما تحول الحكم إلى ملك عضوض في عهد الخلافة الأموية والعباسية‘ لم يدّع أيا من الخلفاء أنه يحكم بالحق الالهى المقدس، أو أنه معصوم، لكنه كان يراجع، وينصح، ويستمع لنصائح العلماء والعقلاء، وينزل في بعض الأحيان على رأيهم ونصيحتهم ومشورتهم، وقد وسعت الدولة الثورات المتعددة التي وقفت في وجه الخلافة ذاتها، فما سمعنا من يسحقها وهو يدعى أنه حكم الله.

أليس في هذا دليلا واضحا على حقيقة مدنية الدولة في الإسلام؟ لكن مشكلة العلمانيين في بلادنا أنهم يرددون مصطلحات الغرب كالببغاوات بلا فهم ولا وتحليل، يقولون دولة الإسلام دولة ثيوقراطية، وهل يعرف الإسلام هذه المصطلحات؟.

إن مصطلح الدولة الثيوقراطية هو مصطلح غربي بحت، مرتبط بالتجربة المسيحية، التي كان فيها رجال الكنيسة يذبحون كل من يخالف آراءهم، متهمين إياه بالهرطقة والمروق من الدين.

والغريب أنك بتتبعك لحركة الإصلاح والتجديد التي قادها مارتن لوثر في القرن السادس عشر الميلادي في أوربا، والتي ثار فيها على تقاليد الكنيسة وصكوك الغفران، كان متأثرا فيها إلى حد بعيد بمبادىء الإسلام التي انتقلت إلى أوربا عبر الحروب الصليبية والأندلس.

لكن عقدة العلمانيين هي من الإسلام، لفهمهم المغلوط له، فالإسلام -وهذا مالم يستطع العلمانيون فهمه حتى الآن- نظام حياة وليس مجرد شعائر أو طقوس، ففيه أرقى النظم البشرية السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، ولا يمنع -مع ذلك- الأخذ من الحضارات فيما لا يتعارض مع مبادئه، وهو في تأصيله لتلك النظم يضع القواعد والأصول الكلية، أما التفاصيل والوسائل والأشكال فهي متروكة لاختلاف الزمان والمكان والاجتهاد، وبذلك تتحقق عالمية الرسالة، وصلاحيتها لكل زمان ومكان.

ومن هنا فلا تعارض بين مدنية الدولة، أي أن تكون الحقوق والواجبات فيها مرعية، والعدالة والمساواة فيها متحققة بين الحاكم والمحكوم على السواء، وبين مرجعيتها الإسلامية، إذ أن قوانين الدولة لابد أن تكون منبثقة من مرجعية شعبها وهويتهم،
لكن الارتباط بين المدنية والانسلاخ من الهوية، أو بين المدنية والحكم بقوانين أرضية من صنع البشر العاجز عن إدراك المصلحة، فهذا ليس إلا في عقول العلمانيين، سواء الأسياد منهم أو الأتباع.

الخميس، 2 يوليو 2009

الاستبداد وجريمة القتل العمد

الاستبداد شيء بغيض، وعواقبه وخيمة على مستوى الفرد والجماعة، وعلى مستوى الدولة والأمة، فهو يحرم الفرد من حريته وحقوقه، ويمنع تكافؤ الفرص، ويقسم الأمة إلى شيع وأحزاب، يقرب هؤلاء ويبعد هؤلاء، ويقسم الناس إلى أهل ثقة لهم كل الفرص والإمكانيات والمواقع والهبات، وأهل كفاءة ليس لهم من الأمر شيء ولا من الهبات نصيب،
إلا أن أسوأ ما يفعله الاستبداد هو قتل الهوية وتدمير الشخصية من الداخل، فالاستبداد يحدث خلل فى الشخصية، ويجعلها غير قادرة على الفعل أو الحركة، ويصيبها أحيانا بالعجز التام والشلل المقعد، فلا تتحرر من أسره إلا بصعوبة بالغة.
والسؤال الآن هل مشكلة الشعوب العربية هي نهب الثروات أو عدم تكافؤ الفرص بين المواطنين أو غيرها من المشاكل؟ مع الاعتراف بان كل تلك المشاكل هي بالفعل مشاكل موجودة، وتعمل عملها فى حياة الشعوب العربية..
إلا أن أسوأ ما تفعله تلك المشاكل وهذه هي المشكلة الحقيقية، هي أنها تصيب الشعوب بالإحباط الدائم والإحساس باليأس المقيت الذي يفقدهم القدرة على الحركة والتغيير، حتى أصبح الكل إلا من رحم الله يقولون لا فائدة، وانكفأ المواطنون فى كل العالم العربي على أنفسهم، وانسحبوا من الحياة العامة والحياة السياسية، ولم يعد يبالون بالأحداث حولهم.. من ذهب من أتى لا فرق عندهم، وتعلقت قلوبهم بالملاهي وما ينسيهم همومهم من متابعة لماتشات الكرة، والانشغال بها، والهم من أجلها والفرح والحزن للغلبة والهزيمة فيها..
لقد فقدت الشعوب العربية القدرة على التمييز والمقاومة والممانعة، بما أحدثه الاستبداد في ونفوسهم وغرسه في قلوبهم من ثقافة الهزيمة والاستسلام..
ألا ما أبشعها من جريمة؟! وما أجرمه من فعل؟! أن تقتل شعبا وهو مازال يسير على الأرض، وأن تميته وما زال فيه عرق ينبض.. فعلى دعاة التغيير أن يحيوا هذا الموات، ويوقظوا هذه الأرواح، وينبهوا هذه العقول، وإلا فالموت المعنوي لا محالة!!

الساركوزيون العرب

عندما يهاجم ساركوزى الحجاب الاسلامى فهذا أمر غير منكور ولا مستغرب، لأن المهاجم ليس مسلما ولا حتى منصفا، ويكفى للدلالة على ذلك مواقفه السياسية من قضايا المسلمين.
لكن الذي يدعو للعجب والأسف في آن واحد، هم هؤلاء المسلمين الذين يؤيدون تلك المهاجمة، بل ويتبارون في الدفاع عن ساركوزى أكثر من دفاعه هو عن نفسه، حتى قال أحدهم "وللحقيقة فاني فرحت جدا لما قاله ساركوزي" وقال كذلك "لذا فاني اشد على يد ساركوزي ( المجرم ) سياسيا .. والداعية المتنور ( حضاريا ) الشجاع ( حياتيا ) والقابض على الجمر ( سلوكيا )...."
وقال آخر "وعليه فان محاولة البعض ربط موضوع النقاب بالموضوع الديني ومحاولة إظهار موقف الرئيس الفرنسي على انه إساءة للإسلام إنما فيه الكثير من المبالغة والتشويه عدا عن التحريض، وهو كما نرى موقف أو رأي للرئيس الفرنسي لا بد من احترامه"
والسؤال الذي يطرح نفسه هل يمكن اعتبار هذا الكلام جهلا منهم بحقيقة الأحكام في الإسلام وحقيقة عداء الغرب للمسلمين أم ماذا؟
ولهم أقول افهموا أحكام الإسلام أولا، وليس هذا تجريحا ورميا لأحد بالجهل، وإنما هي النصيحة وإن كانت على الملأ فلأن الأمر يهم المسلمين جميعا.
الحجاب يا سادة فرض من فرائض الإسلام على المرأة المسلمة من أجل صيانتها عن الابتذال والمهانة، وهذا الوجوب لا يختلف عليه اثنان من المسلمين، وهو أمر معلوم من الدين بالضرورة، وأما المختلف فيه إنما هو القدر المغطى، وجمهور العلماء على أنه الجسم كله ماعدا الوجه والكفين، وأدلتهم في ذلك هي الأقوى والأرجح، لكن ذلك لا ينفى الرأي الآخر وهو ومعتبر في الإسلام وله أدلته المعتبرة، أن جسم المرأة كله يجب تغطيته بما في ذلك الوجه والكفين، أو ما تعارف عليه بالنقاب فالمسالة تدور حول خلاف فقهي مرجعه إلى تقدير قوة الأدلة ومدى ثبوتها وصحتها، أو فهم تلك الأدلة،
أما مسالة أن النقاب موروث ثقافي لبعض الشعوب دون البعض الآخر ليس له علاقة بالدين فهذا الخرف ليس من الإسلام في شيء، والتزام بعض الشعوب أو بعض النساء به دون البعض الآخر مرجعه إلى ذلك الخلاف الفقهي الذي فيه الرحمة للمسلمين جميعا، والمختلف فيه لا إنكار فيه كما تقول القاعدة الأصولية.
وأيا كان الأمر، فإننا على أقل تقدير يمكن اعتبار الأمر مسالة حرية شخصية، لا يجوز مصادرة الحرية فيها، خاصة في بلد تدعى الحرية والتنوير، والبلد الذي يسمح لليهود بأن يظهروا من الملابس ما يدل على هويتهم وثقافتهم رغم أنه لا يخضع للوجوب الديني، ما باله قد ضاق ذرعا بلباس قد فرضه الله علينا.
فهل يمكن اعتبار مهاجمة النقاب الذي يعتبر فضيلة تحرص نساء المسلمين عليه رأيا للرئيس ساركوزى لابد من احترامه؟!
إذا كنا لا نحترم رأى النساء ولا رغبتهن في اختيار الرأي الفقهي الموجب، فكيف بنا نحترم رأى عدو للإسلام والمسلمين بان النقاب استعباد للمرأة.
ثم أي استعباد هذا؟! الاستعباد يا سادة هو الخضوع لغير الله من هوى أو وضع أو سياسة.. الاستعباد هو القهر والظلم وسلب الحرية والكرامة.. والمستعبدون هم تلك الأنظمة الغربية التي لا تزال حتى اليوم تشارك في احتلال أراضينا، ونهب ثرواتنا، ومساندة أنظمة الفساد والقهر التي تحقق لهم أغراضهم ومراميهم.
ثم ما علاقة الحجاب بالتقدم أو التأخر، وما علاقته بالتخلف أو التنوير، هل كلما ازددنا عريا كلما ازددنا علما وثقافة؟! فلماذا بعد سنين العرى والفساد في بلاد المسلمين لم نتقدم خطوة واحدة؟
يا سادة إن العرى في بلاد الغرب ليس له علاقة بتقدمهم، وكلنا نعرف أن أسباب تقدمهم هو أخذهم بالأسباب، وحركتهم، وإبداعهم، وحرصهم على الصالح العام، وانتماءهم الحقيقي لأوطانهم، وكل ذلك بسبب الحرية التي افتقدناها في بلادنا، وهذا هو جوهر الإسلام الذي أخذوا به وهجرناه، وطبقوه وتركناه .
يا سادة لا تكونوا ساركوزيين أكثر من ساركوزى!!

مفاهيم مغلوطة..فاحذروها

ما تمر به الأمة العربية والإسلامية اليوم هو أزمة فكر وثقافة بالدرجة الأولى، فالمثقفون أغلبهم ربطوا عقولهم وفكرهم بالغرب، واستوردوا ثقافتهم منه، ورغم أنهم يهاجمون الغرب فى كل مناسبة، إلا أنهم يقعون تحت تأثيره، ويرددون أفكاره ومصطلحاته الفكرية دون وعى أو فهم
والأمثلة على ذلك لا تحصى، خذ مثلا مصطلح الإسلام السياسي، الذي يتردد فى الآونة الأخيرة للدلالة على الحركات الإسلامية التى تعمل بالسياسة .
ويصفون الإسلام بما ليس فيه دون وعى أو فهم، ومعروف أن هذا التقسيم للإسلام ما بين سياسى واقتصادي أمر ليس من الإسلام فى شيء، فالإسلام دين شامل، يتناول مظاهر الحياة جميعا، ويتدخل فى كل صغيرة وكبيرة فى حياة المسلم، وليس فيه هذا التقسيم البغيض، فالإسلام هو الإسلام كما جاء به القرآن، وجاءت به السنة المحمدية قولا وعملا.
والمتتبع للقرآن يجد أنه اشتمل على الأصول والقواعد الكلية التى تنظم حياة البشر على اختلاف مظاهرها، ففيه من قواعد الحكم والسياسة ما فيه، حيث حارب القرآن الظلم والاستعباد والقهر، وأمر بالعدل والشورى وحرية الاعتقاد، وبين مسئولية الحاكم والمحكوم على السواء، وأمر المسلمين بأن يقوموا بواجب وفريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، بداية من إنكار الظلم والثورة على الظالم ومواجهته، وانتهاء بمواجهة اصغر منكر فى حياة المسلمين، واستخدم القرآن فى ذلك ضرب الأمثلة وذكر قصص السابقين، وما قصة فرعون عنا ببعيد .
وفى مجال الاقتصاد حث الإسلام على العمل، وبين فضله، ونهى المسلم عن التسول والعجز، وأمر بالأخذ بالأسباب، وحرم القرآن المعاملات المالية التى فيها حيف وظلم كالمعاملات الربوية، أو التى فيها غش أو غبن كالتطفيف فى الكيل والميزان.
وحث المسلمين على بعض الأعمال والصناعات بالإشارة والقصص كالزراعة والصناعة وذكر بعض الصناعات التى قام بها بعض الأنبياء كصناعة الحديد التى كان يمارسها داوود عليه السلام.
ولا يخفى علينا ما فى القرآن من نظم اجتماعية وتنظيم للعلاقات المتعددة للمسلم، كعلاقة المسلم بالمسلم وغير المسلم، وعلاقات المسلم فى حالة السلم والحرب، وقواعد العلاقات الدولية، ثم العلاقات الاجتماعية الحياتية كعلاقة المسلم بأبويه وزوجته وأولاده وجيرانه وغيرها....
وتأتى السنة المطهرة فتوضح بعض آيات القرآن وتفصل البعض الآخر
وممارسات النبي أكبر دليل على ذلك، فلم يكن النبي يملك السلطة الدينية المتمثلة فى الوحى والتشريع فقط، وإنما كان يملك إلى جوارها السلطة الزمنية المتمثلة فى حكم المسلمين فى دولة محددة المكان والقانون والعلاقات ولها رسالة فى الحياة وأهداف تسعى إليها.
هذا هو الإسلام كل لا يتجزأ، فليس فيه تلك المصطلحات الغريبة عليه، والتي يرددها بعض المثقفين دون وعى أو فهم،
والعمل السياسي بمرجعية إسلامية أمر لا غبار عليه، ولا يمكن إنكاره على من يقوم به، كما لا يمكن إنكار من يعمل بالسياسة بمرجعية ماركسية أو بمرجعية رأسمالية ليبرالية .
وهم لا يدعون امتلاكهم للإسلام أو الحقيقة، لكنه العمل في دائرة الاجتهاد فيما لا نص فيه، أو يحتمل وجوها عدة، مع الالتزام بالضوابط والأصول الإسلامية التي عرجنا عليها آنفا في مجالات الحياة وأوجه الإصلاح المختلفة .
إن فكرة فصل الدين عن السياسة والحياة فكرة لا تتناسب مع ديننا ولا مع مجتمعنا، فالإسلام غير الديانات الأخرى والمجتمعات الإسلامية غير المجتمعات الأخرى، لأن الإسلام منهج حياة لا يربط المسلم بربه وآخرته، فقط بل ينظم له شئون حياته
وليس فى الإسلام دولة دينية أو سلطة دينية مقدسة خارج دائرة المحاسبة، بل دولة مدنية يحاسب فيها الحاكم والمحكوم على السواء، لكن المرجعية العليا لتلك الدولة هي الإسلام بقواعده وأصوله الثابتة فى القران والسنة فى مجالات الحياة المختلفة، فلا عصمة لحاكم فى الإسلام، هذا ما قرره الإسلام، ودارت عليه الممارسات الصحيحة فى التاريخ الإسلامي، ولا يؤخذ الإسلام بالممارسات الخاطئة للمسلمين.
ففكرة العلمانية فكرة مستوردة دخيلة لا قرار لها فى مجتمعاتنا الإسلامية، وليس عندنا رجال دين بالمفهوم الغربي " الاكليروس" ، ولكن عندنا علماء دين يفسرون، ويوضحون، ويذكرون، ويجتهدون، ويستنبطون الأحكام فى ظل الضوابط والأصول الإسلامية، ولا عبرة باجتهادات خاطئة أو فتاوى شاذة، كما أنهم مع ذلك ليسوا معصومين من الخطأ أو السهو، بل خاضعون كغيرهم للمراجعة والمحاسبة .
لقد حاولنا بكل الطرق الترويج للفكر العلماني، وإخراج الدين من دائرة الحياة على مدار المائة سنة الماضية، فماذا جنينا؟ هل تقدمنا فى أي مجال من مجالات الحياة؟ أم التراجع والتخلف هو سمة المجتمعات العربية والإسلامية فى كل مظاهر حياتها؟ فلماذا الإصرار على الترويج لبضاعة فاسدة أثبت العلم والتجربة بطلانها؟ أم هي الخديعة والاستهبال؟ أم هو الارتزاق والامتهان؟